دوريس ناحوم

Doris Nachum

صاح أحد الجيران من عبر الفناء الفاصل بين شقتها وتلك التابعة لدوريس ناحوم، “جوليا”. وجوليا هو اسم والدة دوريس. كان ذلك في 5 حزيران/يونيو 1967، يوم اندلاع “حرب الأيام الستة”. كانت دوريس في الثامنة من عمرها، ومنزلها مبني في أعلى كنيس يهودي، في جزء من طرابلس على بعد خمس دقائق فقط من الميناء والبحر.

وتقول دوريس، “كلما يحدث شيء في إسرائيل، فلا تمر خمس دقائق قبل خروج عرب إلى الشوارع للقيام بأعمال شغب والبحث عن اليهود”.

في ذلك اليوم مات قتلاً ما يقرب من عشرين يهودياً وحُرقت بعض البيوت الواحدة تلو الأخرى. في عام 1948 كان يقدر عدد اليهود في ليبيا بما يقرب من 40000. وعند اندلاع “حرب الأيام الستة” انخفض ذلك العدد إلى 7000. كان العديد منهم قد غادر البلاد بعد قيام سلسلة من المذابح في عامي 1945 و 1949، وبعد حصول ليبيا على استقلالها في عام 1951. ولم يبق اليوم حتى يهودي واحد في البلاد.

وصرخت جارة دوريس لكي تقوم والدتها بتشغيل الراديو. وقال المذيع أنه قد تم بالفعل تدمير 60 طائرة إسرائيلية. وعرفت والدة دوريس ما الذي يعنيه ذلك، وصاحت بأعلى صوتها إلى زوجها الذي كان يصلّي في الكنيس، طالبة منهه بأن يحث جميع الرجال الآخرين على مغادرة الكنيس والاختباء. وأخبرته بأن عليه ضمان أمان الممر الطويل، والصعود إلى الطابق العلوي.

وركض والد دوريس سريعاً وصعد الدرج إلى قبو البيت. وكانت جدران بيت الأسرة عالية جداً لذلك كان عليهم استخدام السلم للوصول إلى الغرفة العليا. ومن قبو بيتهم قام والد دوريس بنقل أطفال الأسرة الخمسة الصغار لابنه الأكبر، 12 عاماً، الذي كان يمد يديه من الجانب الآخر من قبو بيت الجيران.

وتقول، “بيتنا كان الهدف الأول”. وتتوقف قليلاً وتتعثر في التعبير عن كلماتها. “ربما أكون منفعلة الآن … كانوا يقرعون على الباب. وعرفت والدتي أن الأبواب كانت قوية ولكنها ليست متينة بما فيه الكفاية”.

ونقل والد دوريس جميع الأطفال وسحب السلم إلى الأعلى. “وأخبرته والدتي بسحبه لكي لا يعلمون بأننا كنا في المنزل.” وعندما سمع والد دوريس الغوغاء يكسرون الباب للدخول إلى البيت، لم يتحرك من شدة الخوف وبدأ يتلو الصلوات.

اختبأت دوريس وعائلتها في قبو جارهم جنباً إلى جنب مع عائلة الجيران، حيث كان يعيش عربي في أسفل البيت. وكان جيران دوريس قد توسلوا إليه لحمايتهم عند وصول الغوغاء. وعندما أراد مثيرو الشغب الصعود إلى الأعلى وتفتيش المنزل بصورة دقيقة، أخبرهم أن من حقه القيام بذلك، وهكذا حوّل الغوغاء اهتمامهم إلى أماكن أخرى.

كان الوقت ما يزال في مرحلة مبكرة من صباح ذلك اليوم، ولم يكن لدى والدة دوريس الوقت لإنهاء مسارها الاعتيادي اليومي: إطعام وإلباس الأطفال قبل أن يأخذهم والدهم إلى المدرسة. ولم يرتدي الأطفال سوى ملابسهم الداخلية.

كانت دوريس ترغب في الإطلاع عما يجري وبدأت تنظر من أعلى النافذة. “كان ذلك رهيباً… رهيباً… رهيباً، تلك الصورة التي رأيتها. كانوا يهتفون : ‘إقتل اليهود!’ واعتقدت في ذهني أن هناك مليون شخص ولكن في الحقيقة كان هناك حوالي الألف. وعبر الشارع كان يوجد مصرف. لذلك كانت له أبواب خشبية سميكة، أعتقد حوالي القدم، أبواب عالية”.

وداخل مبنى المصرف كانت تسكن عائلة يهودية بارزة، حيث عملت الجدة في قصر الملك الليبي إدريس السنوسي. وفي حين تقول دوريس أن معظم أبناء الجالية اليهودية في طرابلس كانوا يقدمون الرشوة باستمرار ويظهرون احتراماً للعرب، إلا أن هذه الإمرأة لم تقم بأعمال من هذا القبيل.

وأضافت “إذا أزعجها شخص ما تقوم فوراً بالرد بالمثل. لقد أراد الجميع الانتقام. فقد كان بحوزتهم كل وسيلة للقيام بأعمالهم؛ النار والفؤوس والسكاكين والسيوف… كل وسيلة. كانوا يقرعون بقوة في محاولة لكسر الأبواب وقاموا بإشعال النار في الستائر. لقد حاولوا القيام بذلك طوال اليوم، إن عدم تمكنهم من الدخول كان معجزة. ”

وفي البيت المجاور دمر مثيرو الشغب الكنيس ومنزل دوريس. وهي تتذكر رائحة الدخان أثناء احتراق المبنى. ولا تتذكر الشعور، بل فقدان الحس الكلي بصورة أكثر.

وفي الساعة الحادية عشر من الليل هدأت أعمال العنف. وكان الملك إدريس يعلم أنه ليس باستطاعته حماية اليهود في وطنهم، ولكن كما توضح دوريس، أراد حمايتهم لأنهم كانوا جزءاً منتجاً إلى حد كبير في المجتمع الليبي. وأرسل الملك الشرطة السرية في الليل لتطويقهم.

وتقول، “أتذكر شاحنة كبيرة داكنة، كان ذلك أثناء الليل، ولكن لم يكن هذا هو السبب في كون السماء سوداء، بل كان يعود ذلك إلى الدخان”.

ووفقاً لدوريس قاد أفراد الشرطة العائلة في سيارة لمسافة 45 دقيقة من العاصمة إلى الصحراء. وتقول تم احتجاز أكثر من 3000 يهودي في قاعدة عسكرية بريطانية، وحُصنت الأسوار من جديد بأكياس الرمل حتى لا يتمكن أحد من النظر في داخلها.

وتضيف “كنا محظوظين”. “كانت هناك أسرة أخرى، عائلة لوزون، مع أب وأم وسبع أولاد.”

وقد ارتدى الرجال زي الشرطة وجاؤوا إلى بيتها [عائلة لوزون] وأخبروا أفراد الأسرة بأنهم سيأخذون العائلة إلى المعسكر حيث يوجد بقية اليهود. وبدلاً من ذلك قامت تلك الشرطة الوهمية بقتلهم وحرق جثثهم في المحارق التي كانت تستخدم لصنع الفحم كالصبغ المستخدم في الدهانات الخارجية.

وأثناء وجودهم في المعسكر، وصل القذافي إلى السلطة وعرض الملك إدريس نقل المتحجزين بصورة مؤقتة إلى ايطاليا حيث بإمكان اللاجئين اليهود أن يكونوا آمنين إلى أن يتمكن من استعادة السيطرة على الحكم. ونُقلت أسرة دوريس عن طريق الجو إلى روما.

وفي الطريق [إلى المطار] توسلت والدة دوريس من السائق بأن يتوقف في منزلها. وحدث سابقاً أنه عندما صول الغوغاء إلى باب بيتها [عند اندلاع الحرب] كانت قد اخذت بعض المال والمجوهرات وألقت بها في جورب رمته في الطابق السفلي من البيت. وعند مجيئها هذه المرة إلى أنقاض منزلها، وجدت ذلك الجورب.

وفي طابور الصعود على متن الطائرة تتذكر دوريس كيف كان الحراس يأخذون بوحشية أي ممتلكات كانوا يعثرون عليها بحوزة اللاجئين. وكانت والدة دوريس قد أخبأت المال والمجوهرات في علب الحلوى وفي شعرها بينما ألبست قطعة من الحلي في يد دوريس. ولاحظ الحراس كيف حافظت والدة دوريس على أن تكون ابنتها على مسافة قريبة منها. وطلبوا تفتيشها.

وتقول دوريس: “نظرَتُ في أعين الحراس وقلتُ، مهما تشكون ما في حوزتي فهو قليل جداً بالنسبة لكم، وإذا تأخذونه فلن يبق لديّ شئ”. وسمح لها الحراس بالمرور.

ومن إيطاليا انتقلت دوريس وعائلتها إلى إسرائيل. ووضعتهم الحكومة الإسرائيلية في حي بالقرب من نتانيا، حيث تسكن عائلتها منذ وصولها إلى إسرائيل.

وفي عام 1989 انتقلت دوريس إلى الولايات المتحدة وتعمل حالياً كوكيلة عقارية. وهي متزوجة ولها ابنتان.