اليهودية والإسلام في اليمن “مع صور ليهود اليمن”

بقلم/ أفرايم أيزاك , مركز الجزيرة للدراسات

شهدت حالة التعايش بين العرب المسلمون والأقليات اليهودية حالة جذر ومد في المناطق الخاضعة للحكومات الإسلامية الثيوقراطية، وشهدت مناطق عديدة في العالم هذا التعايش لما يقارب ألفاً ونصفاً من الأعوام. وعلى الرغم من الكراهية التي يكنها المسلمون لليهود إلا أنهم في قرارة أنفسهم يكنون لهم الاحترام أيضا، وهذا بسبب الوهج الديني الذي يحمله اليهودي اليمني خصوصا، وذلك لما يقوم به من تضحية في سبيل عقائده وشعائره الدينية المعقدة التي يؤمن بها والتي تجعل العرب ينظرون إليه كرجل خارق(سوبرمان). إننا نعيش لحظة مفارقات حرجة فمن جهة الشعور المتزايد بأن الحل النهائي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني لن يكون إلا عن طريق وجود دولتين، هذا على الرغم من الحقد والكراهية والقطعية بين الطرفين، حتى مع وجود اتفاقية أوسلو التي تسير بخطى متثاقلة وخارطة الطريق –المرسومة من قبل الولايات المتحدة والتي لا تعول عليها كثيراً الدول الأوروبية الأربع. ومن جهة أخرى يزداد شعورنا بالأسى عند عدم قدرتنا حتى في تخيل كيف يمكن الانتقال من منطقة إلى أخرى. لعلها قد حانت اللحظة المناسبة لنفكر بواقعية أكثر إلى أن نقرأ التاريخ قراءةً متمعنة، فإننا بحاجة إلى أن نعيد قراءة مشهد الصراع في الشرق الأوسط والجهود المتأرجحة لعملية السلام من منظور "أوسلو" و "كامب ديفيد"، ولنحول نظرنا إلى تركيبة التعايش بين اليهود الشرقيين والمجتمعات العربية والإسلامية خلال الثلاثة عشر قرناً السابقة لإعادة بعث دولة إسرائيل إلى الوجود، وحين نتمكن من ذلك سنكون قادرين على الوصول إلى طرف الخيط الذي سيقودنا بين كل الإرباكات والتعقيدات الحالية، ولذلك نخصص المسار التاريخي لليهود اليمنيين – من يهود الوطن العربي- ليقدم لنا مساراً مسبوقاً لتضييق الهوة الفاصلة بين المسلمين واليهود. في خريف عام 2002م، وكما هي عادتنا، قام معهد الدراسات السامية وكل من شركة كارنجي وقسم الدراسات الشرقية في جامعة بريستون برعاية ندوة بحضور 250 مشاركا من أجل تقييم حالة العلاقات العربية الإسلامية-اليهودية في اليمن ومن ثم التوصل إلى تقييم العلاقات العربية الإسلامية على العموم مع اليهود سواء في القرون الماضية أو العصر الحاضر. وخاصة العلاقة بين سمو الإمام يحيى - أخر الأئمة الزيديين العظماء، والذي حكم اليمن من عام 1918م حتى اغتياله عام 1948م – و موري سلام بن سعدية جمليل (ربيع) - القائد الروحي لليهود اليمنيين والذي هاجر إلى إسرائيل العام 1935م. وقد حضر الندوة : ممثلون عن أسرة الإمام يحيى وأسرة موري جمليل، وممثلون عن: المعهد اليمني للديمقراطية، مركز التراث والأبحاث اليمني، مركز الإسلام والديمقراطية، متحف اليهود اليمنيين،مركز شلوم للأبحاث، وكذلك علماء ومفكرون من: جامعة بريستون، الجامعة المفتوحة بإسرائيل، جامعة كولونق بألمانيا، جامعة نيويورك، جامعة صنعاء. ولقد تطرقت الندوة وعبر التاريخ المصور للعلاقات العربية –اليهودية في اليمن إلى مختلف المجالات من التفاعل السياسي بين الإمام يحيى وموري جمليل إلى التقاليد والعادات –في الغناء والرقص- في الموروث اليمني، وصولا إلى محاولة موري جمليل محاكاة الفن المعماري اليمني وذلك بمحاولته بناء مبنى شبيه بقصر الإمام يحيى في القدس. لقد أطلق على المسلمين اليمنيين أنهم " أكثر المسلمين تدينا" كما أطلق على اليهود اليمنيين أنهم "أكثر اليهود تدينا" . ومؤخراً وعلى نحو غير منصف تم تجاهل اليمن من قبل طلاب دراسات الديانات المقارنة، فاليمن مادة قيمة للدراسة حيث نأخذ منها الدروس والعبر ليس عن هيمنة الدولة الأصولية الغير ديمقراطية فحسب بل ومن الجهود التاريخية لليهود والمسلمين في السعي لتحقيق توازن جزئي لتعايش ثقافتين مختلفتين من خلال الاحترام والتفاهم المتبادل – بالرغم من وجود الحواجز الثيوقراطية. تتمتع اليمن- أو العربية السعيدة كما عرفت قديما- بخصوبة أرضها رغم صغر رقعتها، وتقع في الجنوب الغربي للجزيرة العربية . وقد مثلت اليمن وإثيوبيا الأرض المقدسة الأسطورية لمملكة سبأ، ويشهد على ذلك آلاف النقوش والتماثيل والأعمدة والجدران العتيقة والمدن المبنية بأسلوب مذهل والمعابد والحصون والسدود مما يدل على غنى الموروث الثقافي والاقتصادي لحضارة ما قبل الإسلام. تعيش في اليمن أقلية يهودية نشطة وقد لعبت دورا مهما في اليمن خلال حضارة ما قبل الإسلام مرورا بالحضارة الإسلامية وحتى العام 1948م. واتصف اليهود اليمنيون بأنهم أناس عصاميون كادحون استطاعوا أن يحافظوا على التراث اليهودي عبر العصور حتى في أحلك الظروف، فقد استطاعوا الحفاظ على الزركشة الهيلينية الدقيقة حية حتى الآن، كما أنهم كانوا حرفيين مهرة مما أكسبهم إعجاب وتقدير المسلمين. وبالرغم من أنهم كانوا يعيشون في دول أصولية غير ديمقراطية إلا أنهم تميزوا في نمط حياتهم في الأماكن التي كانوا يقطنوها، فلم يكن لديهم أحبار رسميون فقد كانوا كلهم أحباراً، يتكلمون كأحبار، وعند حدوث نزاعات بينهم يأتي ثلاثة من العلماء المجمع عليهم ليستمعوا إلى الخصوم ويحلوا النزاع –تطبيقا لما ورد في التلمود(1). يتفرد اليهود اليمنيون بأشياء عديدة، فهم يمثلون أنموذجاً مصغراً لليهود العرب في الشرق الأوسط بقيمهم وثقافتهم والتي تتجلى في ملبسهم ومأكلهم وتقاليد الزواج والموسيقى والعديد من أنماط الحياة الدينية والعامة والتي تشابه نمط الحياة العربية. ولقد أثرى اليهود اليمنيون الثقافة الإسرائيلية بطيف جمالي لا حدود له من موسيقى ورقصات وأحجار كريمة منذ العام 1948م، وكأغلب الجماعات اليهودية الأخرى حافظ اليهود اليمنيون على أدق تفاصيل الشريعة والتعاليم اليهودية القديمة، بل إنهم الفئة اليهودية الوحيدة في العالم التي تقرأ الكتاب المقدس لليهود مرفق بتلاوة مسموعة للترجومة(2) الآرامية وفقا لتقاليد الكنيس اليهودي القديم وكما وردت في التلمود؛ يتلو أولادهم الكتاب المقدس في أربع اتجاهات في محيط دائري بينما يتلوه كبار السن عن ظهر قلب. وتتميز تلاوتهم بأن نطقهم يرجع على الأقل إلى عهد العصور الوسطى، فبحسب علماء الأصوات الذين درسوا أصواتهم فإن أسلوبهم الخاص في النشيد واتساق أصواتهم تعود إلى عهد موسيقى الكنيسة القديمة و كترنيمة "جيرجوريان" وكلاهما متأصل في موسيقى الشعائر القديمة للهيكل في القدس. يصف البرفسور "شالوم غوتين" المجتمع اليمني بأنه مجتمع قام على أساس ديني بدرجة أولى (غوتين1955م)، فكيف استطاع مجتمع يهودي متعصب أن يعيش عبر الزمن بين أمة إسلامية متعصبة؟ إن دلالة هذا السؤال تجعل من تاريخ اليهود اليمنيين مرتكزاً لدراسة العلاقات العربية الإسلامية-اليهودية. لقد صرح محمد(3) بصراحة أنه لن يجبر اليهود العرب ومنهم اليمنيون على اعتناق الإسلام، ولكنه من جهة أخرى قال "لن يكون هناك ديانتان في بلاد العرب وكل أنحاء الجزيرة العربية". ونتيجة لازدواجية القرار هذا كان بقاء اليهود موضع تساؤل خطير خاصة عند خضوع اليمن تحت وطأة الجيش الإسلامي عام 629م وقبل وفاة محمد بثلاثة أعوام. ومن ثم ابتدأ الخليفة عمر (634-644م) سياسة طرد اليهود والمسيحيين من الجزيرة العربية بما فيها شمال اليمن. وبالرغم من خلو اليمن من المسيحيين منذ القرن الحادي عشر إلا أن اليهود استطاعوا أن يجدوا لهم مكانا في المجتمع اليمني حتى وإن كانوا يعاملون كمواطنين درجة ثانية، إلى أن تحقق لهم الأمان أخيرا في عهد حكم الزيود الشيعة حيث وقعوا معهم اتفاقاً في عام 897م يضمن لهم العيش بكرامة وحرية مقابل أن يدفعوا الجزية-وهي ابتزاز!! مالٍ بداعي الحماية.

وعموماً فهناك توجهان فكريان بخصوص العلاقات التاريخية للمسلمين واليهود في اليمن: أ- التوجه الأول تشاؤمي ويرى أن اليهود كانوا خاضعين لمعاملة قاسية من قبل دولة قمعية دينية يحكمها أئمة زيديون متعصبون يمتد حكمهم من ضواحي صنعاء العاصمة وحتى أواسط أراضي نجد. ليس هذا فحسب بل وأنهم كانوا يستغلون من قبل العالم الإسلامي والقرآن(9-29) والخلفاء-وخاصة عمر- بفرض قيود عليهم باعتبارهم"ذميين" أي أنهم يدفعون الإتاوة-بل يفرض عليهم ذلك-ليتم إذلالهم، وقد طالت هذه القيود الملبس، والمعاملات العامة، والمسكن، وبناء المعابد/الكنائس, العديد من مظاهر الحياة المختلفة. (تريتون1977) كما أنه لا يسمح لذمي بامتلاك الأرض بل إنهم كانوا يجبرون على دفع الخراج كضريبة لممتلكاتهم ودفع الجزية- تسعيرة باهظة لحماية الأقليات. كما أن التطبيق لما عرف بـ"معاهدة عمر" كان متضاربا في بلاد المسلمين، فقد قام الحكام الزيديون المتدينون بفرض قيود بشكل مفرط ووحشي حيث أنهم كانوا عبارة عن نموذج قمعي يوازي المرجعيات في إيران-كما يصفهم بعض المراقبين. إنه لمن سخرية القدر! أن يزداد عدد الأصوليين الشيعة وأن تنتشر حركتهم الشيعية وهم الذين وصفهم كاتب إسلامي قديم ليهودي يمني يدعى عبدا لله بن سبأ حيث بشر بأن علي لم يمت حقيقةً لكنه مختبئ وقد يُظهر نفسه ثانيةً ليؤسس مملكة الرب على الأرض.

إن أيدلوجية الزواج التي اتبعها الإمام-الحاكم السياسي لليمن- وذلك بالزواج من الشيعة أو القضاة، خلقت جوا من التعصب الديني الأصولي الذي ظهرت تبعاته على معاملة الأقلية اليهودية، التي لم يسمح لهم باقتناء السلاح أو حتى الجنبية(الخنجر) التي كان يرتديها اليمنيون كرمز للنبل والشرف-بالرغم من أن اليهود كانوا هم الحدادين المهرة في اليمن، ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب بل شمل نواحي الحياة المختلفة؛ إذا أردت أن تبني بيتا أكثر من طابقين، أو تمتطي حصانا أو بغلا في الشارع، إذا أردت أن تمشي في الشارع في نفس الجهة التي يسلكها المسلمون،إذا أردت أن تلبس حذاءاً أو ترتدي ملابس نظيفة وملونة، وإذا أردت أن تحصل على إضاءة في الشارع الذي يقطنه اليهود) وهلم جرا.

طبقا لهذه النظرة التشاؤمية حول تاريخ اليهود اليمنيين منذ القرن الخامس عشر فإن اليهود كانوا ضحايا تعصب ممقوت كما تعرضوا إلى احتقار سواد الناس من المسلمين.يذكر هيلفرت(1935م) أن السلطات السياسية المتدينة كانت تنكث عهودها مع اليهود كما حدث عام 1918م عندما أمرت هذه السلطات بإجبار يهود شراب على ترك ديانتهم. وفي العام 1967 تعرض يهود صنعاء والمناطق الوسطى إلى الطرد من المدن الرئيسية إلى المناطق القفار قرب قرية موسى،ودمرت بعض معابدهم وحولت البقية إلى مساجد. إلا أنهم في وقت لاحق سمحوا لليهود بالعودة وذلك لأسباب اقتصادية، وبعد أن عاد اليهود لم يسمح لهم بالخروج من أحيائهم الجديدة المحاطة بالأسوار، وأُوكل إليهم القيام بالأعمال القذرة كتنظيف حمامات المدينة. كما قامت السلطات الدينية بأخذ أولاد اليهود (اليتامى) -وإن كانت أمهاتهم لا تزال على قيد الحياة- وذلك لتغيير معتقداتهم إلى جانب التحريض على طرد اليهود أو ردهم عن دينهم. ب- وفي المقابل فان هناك النظرة التفاؤلية حول تاريخ اليهود اليمنيين، وأصحاب هذا الاتجاه لا ينكرون التمييز العنصري الذي تعرض له اليهود إلا أنهم لا ينظرون إلى الصورة بتلك القتامة التي يراها أصحاب النظرة التشاؤمية. فهم يرون أن اليهود كان لهم مرتبة عالية في النظام القبلي والهيكل الاجتماعي في اليمن، وهذا ما تؤكده كل الدراسات التي أقيمت حول العادات والتقاليد اليمنية، حيث إنه لم يتم ترتيب اليهود كطائفة منبوذة أو قليلة الشأن –والطائفة مصطلح يطلق على الجنس المتناسل (غيرهولم 1977م) . وبالرغم من أن اليهود اخضعوا لدفع جزية باهظة إلا أنهم كانوا يحظون بمعاملة جيدة من قبل الجنود الذين يحمون معابدهم ومناطق سكناهم، بل إن المسلمين كانوا يتبرعون لليهود لكسب ولائهم (غوتين 1955م). أما بالنسبة لليهود الذين كانوا يقطنون في الريف بعيدا من مراكز حكم الأئمة الزيديين فقد كانوا أفضل حالاً ولقد كانوا ينأون بأولادهم اليتامى عن الاقتراب من أماكن سكن المسلمين وكذا عن ركوب الجمال أو الأحصنة. أما اليهود اليمنيون الذين يجيدون اللغة العربية وينشدون الأناشيد الدينية في كلا اللغتين العبرية والعربية وخاصةً أشعار الشاعر المعروف شالوم شبازي (عاش في القرن 16) فقد كانوا يشعرون بأنهم في وطنهم وتأقلموا مع البيئة المحيطة بهم. عموما فكلا الاتجاهين التشاؤمي والتفاؤلي يتفقان على أنه بالرغم من الضغط الذي تعرض له اليهود اليمنيون من قبل الحكام المتدينين لإخراجهم من اليمن ورغبة الأئمة في تلبية طلب هؤلاء الحكام إلا أن الحكومة كانت تأخذ في الحسبان الاعتبارات الاقتصادية . لقد كان اليهود اليمنيون حرفيين مهرة فهم الحدادون والصاغة والمدراء في صك العملات، ولبراعة اليهود في هذه الحرف حظوا بثقة الحكام، تلك الثقة التي لم يحظى بها المسلمون أنفسهم. إن التاريخ الحديث يبرهن على أهمية اليهود الاقتصادية وأثرهم في العادات والتقاليد في اليمن، وقد أدت هجرتهم إلى إسرائيل العام 1948م إلى تدهور الاقتصاد اليمني كما أنهم ساهموا في نجاح ثورة 1967م. إن معالجة التفاعل اليهودي –المسلم في العالم العربي تتغاير بين الانفتاح في المغرب ومساحات الحرية الضيقة في اليمن. وقد اقترحت الدراسات الحديثة تنقيح صورة التفاعل تنقيحا اعتباريا (ستيل مان 1979م)، ليس فقط في الجانب الاقتصادي بل الثقافي والسياسي(دلال1999م). لقد تمكن اليهود اليمنيون من أن يبنوا عالمهم المستقل لذا كانوا قادرين على انتزاع روح التسامح من قبل الإمام يحيى طوال حقبة حكمه إلى أن هاجروا إلى إسرائيل في الفترة بين 1948 إلى 1950م. كما أن اليهود اليمنيين هم مؤرخو تاريخ الحركة الصهيونية. ولقد استفاد العلماء والباحثون من الوثائق العبرية والعربية في التحري عن حقيقة تاريخ التفاعل اليهودي-الإسلامي المعقد في اليمن، خاصةً مجموعة موري جمليل الموجودة في القدس. فموري جمليل أحد علماء اليهود المشهورين، كما أنه كان المستشار المقرب والشخصي للإمام يحيى طوال 12عاماً. عندما هاجر موري جمليل إلى إسرائيل عام 1935م، أحضر معه كماً هائلاً من الوثائق العربية المأخوذة من الأرشيف الرسمي للإمام ونشر العديد من الكتب التي تحوي وثائق رائعة عن العلاقات العربية اليهودية في أوائل القرن العشرين في اليمن. ويوجد هذا الأرشيف من المخطوطات في مركز شلوم للأبحاث في القدس والذي منحت شرف أن أكون في مجلس إدارته. يتفرد مركز شلوم للأبحاث بمهمة نشر كتب علمية موثقة بمخطوطات ومستندات حكومية جمعت من الأقطار العربية في العصر الحديث.ولقد نشر المركز22 كتاباً حتى الآن تحتوي على مخطوطات بعضها منذ زمن الحرب العالمية الثانية، ومن هذه الكتب كتاب "اليهود وملك اليمن"، وهو كتاب رائع يتعلق بالعلاقات بين إمام اليمن واليهود في النصف الأول من القرن العشرين موثق بمجموعة من المخطوطات الأصلية والتي جمعت في الفترة القصيرة السابقة للإطاحة بحكم الإمامة. ففي تلك الفترة من الزمن تمكن الإمام يحيى وموري جمليل من توسيع مجال التعايش بين الديانتين والثقافتين المختلفتين بين اليهود والمسلمين على الرغم من مشاعر البغض التي يكنها ذلك المجتمع الأصولي اللاديموقراطي. ونتعلم من تاريخ حياتهما-الإمام وجمليل- كيف استطاعا لعب دور إيجابي في ظل الظروف الصعبة التي كانت سائدة حينذاك، ونستفيد من ذلك أن نكافح من أجل إحلال السلام والديمقراطية التي أثقلت كاهل عالمنا اليوم في سعيه لتحقيق ذلك. بإيجاز يمكننا القول: تعايش العرب المسلمون مع الأقليات اليهودية تعايشاً تزداد سلميته أو تقل في المناطق الخاضعة للحكومات الإسلامية الثيوقراطية لما يقارب ألفاً ونصف الأعوام. وقد تعايشوا في اليمن حيث تتصف الفئتان بأنهما الأكثر تديناً.

والسؤال المطروح هو: هل يستطيع العرب المسلمون أن يتعايشوا مع الدولة اليهودية الموجودة في قلب العالم الإسلامي، ليس ككيان مستقل عنهم بل تعايشا قويا كذاك الموجود بين المجتمعات الإسلامية؟ وأخذ الدروس والعبر من تاريخ اليمن القديم المعروف في أنحاء المعمورة-تلك الدروس التي تظهر الأخوة السامية. إن الدوافع هي وحدها القادرة على إيجاد النتائج الايجابية. فهل تستطيع الدروس اليمنية أن تعد الشعبين –اليهودي والمسلم_ ليعيشوا حتمية الجوار؟ إن احتمالات حدوث ذلك ليست وهما فالأفكار تغير عقول البشر، فلنأمل بأن أفكاراً أفضل قد تأتي بمستقبل أفضل.

May 12, 2014
لا تعليقات

بقلم/ أفرايم أيزاك , مركز الجزيرة للدراسات


شهدت حالة التعايش بين العرب المسلمون والأقليات اليهودية حالة جذر ومد في المناطق الخاضعة للحكومات الإسلامية الثيوقراطية، وشهدت مناطق عديدة في العالم هذا التعايش لما يقارب ألفاً ونصفاً من الأعوام.

وعلى الرغم من الكراهية التي يكنها المسلمون لليهود إلا أنهم في قرارة أنفسهم يكنون لهم الاحترام أيضا، وهذا بسبب الوهج الديني الذي يحمله اليهودي اليمني خصوصا، وذلك لما يقوم به من تضحية في سبيل عقائده وشعائره الدينية المعقدة التي يؤمن بها والتي تجعل العرب ينظرون إليه كرجل خارق(سوبرمان).

إننا نعيش لحظة مفارقات حرجة فمن جهة الشعور المتزايد بأن الحل النهائي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني لن يكون إلا عن طريق وجود دولتين، هذا على الرغم من الحقد والكراهية والقطعية بين الطرفين، حتى مع وجود اتفاقية أوسلو التي تسير بخطى متثاقلة وخارطة الطريق –المرسومة من قبل الولايات المتحدة والتي لا تعول عليها كثيراً الدول الأوروبية الأربع. ومن جهة أخرى يزداد شعورنا بالأسى عند عدم قدرتنا حتى في تخيل كيف يمكن الانتقال من منطقة إلى أخرى. لعلها قد حانت اللحظة المناسبة لنفكر بواقعية أكثر إلى أن نقرأ التاريخ قراءةً متمعنة، فإننا بحاجة إلى أن نعيد قراءة مشهد الصراع في الشرق الأوسط والجهود المتأرجحة لعملية السلام من منظور “أوسلو” و “كامب ديفيد”، ولنحول نظرنا إلى تركيبة التعايش بين اليهود الشرقيين والمجتمعات العربية والإسلامية خلال الثلاثة عشر قرناً السابقة لإعادة بعث دولة إسرائيل إلى الوجود، وحين نتمكن من ذلك سنكون قادرين على الوصول إلى طرف الخيط الذي سيقودنا بين كل الإرباكات والتعقيدات الحالية، ولذلك نخصص المسار التاريخي لليهود اليمنيين – من يهود الوطن العربي- ليقدم لنا مساراً مسبوقاً لتضييق الهوة الفاصلة بين المسلمين واليهود.

في خريف عام 2002م، وكما هي عادتنا، قام معهد الدراسات السامية وكل من شركة كارنجي وقسم الدراسات الشرقية في جامعة بريستون برعاية ندوة بحضور 250 مشاركا من أجل تقييم حالة العلاقات العربية الإسلامية-اليهودية في اليمن ومن ثم التوصل إلى تقييم العلاقات العربية الإسلامية على العموم مع اليهود سواء في القرون الماضية أو العصر الحاضر. وخاصة العلاقة بين سمو الإمام يحيى – أخر الأئمة الزيديين العظماء، والذي حكم اليمن من عام 1918م حتى اغتياله عام 1948م – و موري سلام بن سعدية جمليل (ربيع) – القائد الروحي لليهود اليمنيين والذي هاجر إلى إسرائيل العام 1935م. وقد حضر الندوة : ممثلون عن أسرة الإمام يحيى وأسرة موري جمليل، وممثلون عن:

المعهد اليمني للديمقراطية، مركز التراث والأبحاث اليمني، مركز الإسلام والديمقراطية، متحف اليهود اليمنيين،مركز شلوم للأبحاث، وكذلك علماء ومفكرون من: جامعة بريستون، الجامعة المفتوحة بإسرائيل، جامعة كولونق بألمانيا، جامعة نيويورك، جامعة صنعاء. ولقد تطرقت الندوة وعبر التاريخ المصور للعلاقات العربية –اليهودية في اليمن إلى مختلف المجالات من التفاعل السياسي بين الإمام يحيى وموري جمليل إلى التقاليد والعادات –في الغناء والرقص- في الموروث اليمني، وصولا إلى محاولة موري جمليل محاكاة الفن المعماري اليمني وذلك بمحاولته بناء مبنى شبيه بقصر الإمام يحيى في القدس.

لقد أطلق على المسلمين اليمنيين أنهم ” أكثر المسلمين تدينا” كما أطلق على اليهود اليمنيين أنهم “أكثر اليهود تدينا” . ومؤخراً وعلى نحو غير منصف تم تجاهل اليمن من قبل طلاب دراسات الديانات المقارنة، فاليمن مادة قيمة للدراسة حيث نأخذ منها الدروس والعبر ليس عن هيمنة الدولة الأصولية الغير ديمقراطية فحسب بل ومن الجهود التاريخية لليهود والمسلمين في السعي لتحقيق توازن جزئي لتعايش ثقافتين مختلفتين من خلال الاحترام والتفاهم المتبادل – بالرغم من وجود الحواجز الثيوقراطية.

تتمتع اليمن- أو العربية السعيدة كما عرفت قديما- بخصوبة أرضها رغم صغر رقعتها، وتقع في الجنوب الغربي للجزيرة العربية . وقد مثلت اليمن وإثيوبيا الأرض المقدسة الأسطورية لمملكة سبأ، ويشهد على ذلك آلاف النقوش والتماثيل والأعمدة والجدران العتيقة والمدن المبنية بأسلوب مذهل والمعابد والحصون والسدود مما يدل على غنى الموروث الثقافي والاقتصادي لحضارة ما قبل الإسلام.

تعيش في اليمن أقلية يهودية نشطة وقد لعبت دورا مهما في اليمن خلال حضارة ما قبل الإسلام مرورا بالحضارة الإسلامية وحتى العام 1948م. واتصف اليهود اليمنيون بأنهم أناس عصاميون كادحون استطاعوا أن يحافظوا على التراث اليهودي عبر العصور حتى في أحلك الظروف، فقد استطاعوا الحفاظ على الزركشة الهيلينية الدقيقة حية حتى الآن، كما أنهم كانوا حرفيين مهرة مما أكسبهم إعجاب وتقدير المسلمين. وبالرغم من أنهم كانوا يعيشون في دول أصولية غير ديمقراطية إلا أنهم تميزوا في نمط حياتهم في الأماكن التي كانوا يقطنوها، فلم يكن لديهم أحبار رسميون فقد كانوا كلهم أحباراً، يتكلمون كأحبار، وعند حدوث نزاعات بينهم يأتي ثلاثة من العلماء المجمع عليهم ليستمعوا إلى الخصوم ويحلوا النزاع –تطبيقا لما ورد في التلمود(1).

يتفرد اليهود اليمنيون بأشياء عديدة، فهم يمثلون أنموذجاً مصغراً لليهود العرب في الشرق الأوسط بقيمهم وثقافتهم والتي تتجلى في ملبسهم ومأكلهم وتقاليد الزواج والموسيقى والعديد من أنماط الحياة الدينية والعامة والتي تشابه نمط الحياة العربية.

ولقد أثرى اليهود اليمنيون الثقافة الإسرائيلية بطيف جمالي لا حدود له من موسيقى ورقصات وأحجار كريمة منذ العام 1948م، وكأغلب الجماعات اليهودية الأخرى حافظ اليهود اليمنيون على أدق تفاصيل الشريعة والتعاليم اليهودية القديمة، بل إنهم الفئة اليهودية الوحيدة في العالم التي تقرأ الكتاب المقدس لليهود مرفق بتلاوة مسموعة للترجومة(2) الآرامية وفقا لتقاليد الكنيس اليهودي القديم وكما وردت في التلمود؛ يتلو أولادهم الكتاب المقدس في أربع اتجاهات في محيط دائري بينما يتلوه كبار السن عن ظهر قلب. وتتميز تلاوتهم بأن نطقهم يرجع على الأقل إلى عهد العصور الوسطى، فبحسب علماء الأصوات الذين درسوا أصواتهم فإن أسلوبهم الخاص في النشيد واتساق أصواتهم تعود إلى عهد موسيقى الكنيسة القديمة و كترنيمة “جيرجوريان” وكلاهما متأصل في موسيقى الشعائر القديمة للهيكل في القدس.

يصف البرفسور “شالوم غوتين” المجتمع اليمني بأنه مجتمع قام على أساس ديني بدرجة أولى (غوتين1955م)، فكيف استطاع مجتمع يهودي متعصب أن يعيش عبر الزمن بين أمة إسلامية متعصبة؟ إن دلالة هذا السؤال تجعل من تاريخ اليهود اليمنيين مرتكزاً لدراسة العلاقات العربية الإسلامية-اليهودية.

لقد صرح محمد(3) بصراحة أنه لن يجبر اليهود العرب ومنهم اليمنيون على اعتناق الإسلام، ولكنه من جهة أخرى قال “لن يكون هناك ديانتان في بلاد العرب وكل أنحاء الجزيرة العربية”. ونتيجة لازدواجية القرار هذا كان بقاء اليهود موضع تساؤل خطير خاصة عند خضوع اليمن تحت وطأة الجيش الإسلامي عام 629م وقبل وفاة محمد بثلاثة أعوام. ومن ثم ابتدأ الخليفة عمر (634-644م) سياسة طرد اليهود والمسيحيين من الجزيرة العربية بما فيها شمال اليمن. وبالرغم من خلو اليمن من المسيحيين منذ القرن الحادي عشر إلا أن اليهود استطاعوا أن يجدوا لهم مكانا في المجتمع اليمني حتى وإن كانوا يعاملون كمواطنين درجة ثانية، إلى أن تحقق لهم الأمان أخيرا في عهد حكم الزيود الشيعة حيث وقعوا معهم اتفاقاً في عام 897م يضمن لهم العيش بكرامة وحرية مقابل أن يدفعوا الجزية-وهي ابتزاز!! مالٍ بداعي الحماية.


وعموماً فهناك توجهان فكريان بخصوص العلاقات التاريخية للمسلمين واليهود في اليمن:

أ- التوجه الأول تشاؤمي ويرى أن اليهود كانوا خاضعين لمعاملة قاسية من قبل دولة قمعية دينية يحكمها أئمة زيديون متعصبون يمتد حكمهم من ضواحي صنعاء العاصمة وحتى أواسط أراضي نجد. ليس هذا فحسب بل وأنهم كانوا يستغلون من قبل العالم الإسلامي والقرآن(9-29) والخلفاء-وخاصة عمر- بفرض قيود عليهم باعتبارهم”ذميين” أي أنهم يدفعون الإتاوة-بل يفرض عليهم ذلك-ليتم إذلالهم، وقد طالت هذه القيود الملبس، والمعاملات العامة، والمسكن، وبناء المعابد/الكنائس, العديد من مظاهر الحياة المختلفة. (تريتون1977) كما أنه لا يسمح لذمي بامتلاك الأرض بل إنهم كانوا يجبرون على دفع الخراج كضريبة لممتلكاتهم ودفع الجزية- تسعيرة باهظة لحماية الأقليات.

كما أن التطبيق لما عرف بـ”معاهدة عمر” كان متضاربا في بلاد المسلمين، فقد قام الحكام الزيديون المتدينون بفرض قيود بشكل مفرط ووحشي حيث أنهم كانوا عبارة عن نموذج قمعي يوازي المرجعيات في إيران-كما يصفهم بعض المراقبين. إنه لمن سخرية القدر! أن يزداد عدد الأصوليين الشيعة وأن تنتشر حركتهم الشيعية وهم الذين وصفهم كاتب إسلامي قديم ليهودي يمني يدعى عبدا لله بن سبأ حيث بشر بأن علي لم يمت حقيقةً لكنه مختبئ وقد يُظهر نفسه ثانيةً ليؤسس مملكة الرب على الأرض.

إن أيدلوجية الزواج التي اتبعها الإمام-الحاكم السياسي لليمن- وذلك بالزواج من الشيعة أو القضاة، خلقت جوا من التعصب الديني الأصولي الذي ظهرت تبعاته على معاملة الأقلية اليهودية، التي لم يسمح لهم باقتناء السلاح أو حتى الجنبية(الخنجر) التي كان يرتديها اليمنيون كرمز للنبل والشرف-بالرغم من أن اليهود كانوا هم الحدادين المهرة في اليمن، ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب بل شمل نواحي الحياة المختلفة؛ إذا أردت أن تبني بيتا أكثر من طابقين، أو تمتطي حصانا أو بغلا في الشارع، إذا أردت أن تمشي في الشارع في نفس الجهة التي يسلكها المسلمون،إذا أردت أن تلبس حذاءاً أو ترتدي ملابس نظيفة وملونة، وإذا أردت أن تحصل على إضاءة في الشارع الذي يقطنه اليهود) وهلم جرا.


طبقا لهذه النظرة التشاؤمية حول تاريخ اليهود اليمنيين منذ القرن الخامس عشر فإن اليهود كانوا ضحايا تعصب ممقوت كما تعرضوا إلى احتقار سواد الناس من المسلمين.يذكر هيلفرت(1935م) أن السلطات السياسية المتدينة كانت تنكث عهودها مع اليهود كما حدث عام 1918م عندما أمرت هذه السلطات بإجبار يهود شراب على ترك ديانتهم. وفي العام 1967 تعرض يهود صنعاء والمناطق الوسطى إلى الطرد من المدن الرئيسية إلى المناطق القفار قرب قرية موسى،ودمرت بعض معابدهم وحولت البقية إلى مساجد. إلا أنهم في وقت لاحق سمحوا لليهود بالعودة وذلك لأسباب اقتصادية، وبعد أن عاد اليهود لم يسمح لهم بالخروج من أحيائهم الجديدة المحاطة بالأسوار، وأُوكل إليهم القيام بالأعمال القذرة كتنظيف حمامات المدينة. كما قامت السلطات الدينية بأخذ أولاد اليهود (اليتامى) -وإن كانت أمهاتهم لا تزال على قيد الحياة- وذلك لتغيير معتقداتهم إلى جانب التحريض على طرد اليهود أو ردهم عن دينهم.

ب- وفي المقابل فان هناك النظرة التفاؤلية حول تاريخ اليهود اليمنيين، وأصحاب هذا الاتجاه لا ينكرون التمييز العنصري الذي تعرض له اليهود إلا أنهم لا ينظرون إلى الصورة بتلك القتامة التي يراها أصحاب النظرة التشاؤمية. فهم يرون أن اليهود كان لهم مرتبة عالية في النظام القبلي والهيكل الاجتماعي في اليمن، وهذا ما تؤكده كل الدراسات التي أقيمت حول العادات والتقاليد اليمنية، حيث إنه لم يتم ترتيب اليهود كطائفة منبوذة أو قليلة الشأن –والطائفة مصطلح يطلق على الجنس المتناسل (غيرهولم 1977م) . وبالرغم من أن اليهود اخضعوا لدفع جزية باهظة إلا أنهم كانوا يحظون بمعاملة جيدة من قبل الجنود الذين يحمون معابدهم ومناطق سكناهم، بل إن المسلمين كانوا يتبرعون لليهود لكسب ولائهم (غوتين 1955م). أما بالنسبة لليهود الذين كانوا يقطنون في الريف بعيدا من مراكز حكم الأئمة الزيديين فقد كانوا أفضل حالاً ولقد كانوا ينأون بأولادهم اليتامى عن الاقتراب من أماكن سكن المسلمين وكذا عن ركوب الجمال أو الأحصنة. أما اليهود اليمنيون الذين يجيدون اللغة العربية وينشدون الأناشيد الدينية في كلا اللغتين العبرية والعربية وخاصةً أشعار الشاعر المعروف شالوم شبازي (عاش في القرن 16) فقد كانوا يشعرون بأنهم في وطنهم وتأقلموا مع البيئة المحيطة بهم.

عموما فكلا الاتجاهين التشاؤمي والتفاؤلي يتفقان على أنه بالرغم من الضغط الذي تعرض له اليهود اليمنيون من قبل الحكام المتدينين لإخراجهم من اليمن ورغبة الأئمة في تلبية طلب هؤلاء الحكام إلا أن الحكومة كانت تأخذ في الحسبان الاعتبارات الاقتصادية . لقد كان اليهود اليمنيون حرفيين مهرة فهم الحدادون والصاغة والمدراء في صك العملات، ولبراعة اليهود في هذه الحرف حظوا بثقة الحكام، تلك الثقة التي لم يحظى بها المسلمون أنفسهم.

إن التاريخ الحديث يبرهن على أهمية اليهود الاقتصادية وأثرهم في العادات والتقاليد في اليمن، وقد أدت هجرتهم إلى إسرائيل العام 1948م إلى تدهور الاقتصاد اليمني كما أنهم ساهموا في نجاح ثورة 1967م.

إن معالجة التفاعل اليهودي –المسلم في العالم العربي تتغاير بين الانفتاح في المغرب ومساحات الحرية الضيقة في اليمن. وقد اقترحت الدراسات الحديثة تنقيح صورة التفاعل تنقيحا اعتباريا (ستيل مان 1979م)، ليس فقط في الجانب الاقتصادي بل الثقافي والسياسي(دلال1999م). لقد تمكن اليهود اليمنيون من أن يبنوا عالمهم المستقل لذا كانوا قادرين على انتزاع روح التسامح من قبل الإمام يحيى طوال حقبة حكمه إلى أن هاجروا إلى إسرائيل في الفترة بين 1948 إلى 1950م. كما أن اليهود اليمنيين هم مؤرخو تاريخ الحركة الصهيونية.

ولقد استفاد العلماء والباحثون من الوثائق العبرية والعربية في التحري عن حقيقة تاريخ التفاعل اليهودي-الإسلامي المعقد في اليمن، خاصةً مجموعة موري جمليل الموجودة في القدس. فموري جمليل أحد علماء اليهود المشهورين، كما أنه كان المستشار المقرب والشخصي للإمام يحيى طوال 12عاماً. عندما هاجر موري جمليل إلى إسرائيل عام 1935م، أحضر معه كماً هائلاً من الوثائق العربية المأخوذة من الأرشيف الرسمي للإمام ونشر العديد من الكتب التي تحوي وثائق رائعة عن العلاقات العربية اليهودية في أوائل القرن العشرين في اليمن. ويوجد هذا الأرشيف من المخطوطات في مركز شلوم للأبحاث في القدس والذي منحت شرف أن أكون في مجلس إدارته.

يتفرد مركز شلوم للأبحاث بمهمة نشر كتب علمية موثقة بمخطوطات ومستندات حكومية جمعت من الأقطار العربية في العصر الحديث.ولقد نشر المركز22 كتاباً حتى الآن تحتوي على مخطوطات بعضها منذ زمن الحرب العالمية الثانية، ومن هذه الكتب كتاب “اليهود وملك اليمن”، وهو كتاب رائع يتعلق بالعلاقات بين إمام اليمن واليهود في النصف الأول من القرن العشرين موثق بمجموعة من المخطوطات الأصلية والتي جمعت في الفترة القصيرة السابقة للإطاحة بحكم الإمامة. ففي تلك الفترة من الزمن تمكن الإمام يحيى وموري جمليل من توسيع مجال التعايش بين الديانتين والثقافتين المختلفتين بين اليهود والمسلمين على الرغم من مشاعر البغض التي يكنها ذلك المجتمع الأصولي اللاديموقراطي. ونتعلم من تاريخ حياتهما-الإمام وجمليل- كيف استطاعا لعب دور إيجابي في ظل الظروف الصعبة التي كانت سائدة حينذاك، ونستفيد من ذلك أن نكافح من أجل إحلال السلام والديمقراطية التي أثقلت كاهل عالمنا اليوم في سعيه لتحقيق ذلك.

بإيجاز يمكننا القول: تعايش العرب المسلمون مع الأقليات اليهودية تعايشاً تزداد سلميته أو تقل في المناطق الخاضعة للحكومات الإسلامية الثيوقراطية لما يقارب ألفاً ونصف الأعوام. وقد تعايشوا في اليمن حيث تتصف الفئتان بأنهما الأكثر تديناً.


والسؤال المطروح هو: هل يستطيع العرب المسلمون أن يتعايشوا مع الدولة اليهودية الموجودة في قلب العالم الإسلامي، ليس ككيان مستقل عنهم بل تعايشا قويا كذاك الموجود بين المجتمعات الإسلامية؟ وأخذ الدروس والعبر من تاريخ اليمن القديم المعروف في أنحاء المعمورة-تلك الدروس التي تظهر الأخوة السامية. إن الدوافع هي وحدها القادرة على إيجاد النتائج الايجابية.

فهل تستطيع الدروس اليمنية أن تعد الشعبين –اليهودي والمسلم_ ليعيشوا حتمية الجوار؟

إن احتمالات حدوث ذلك ليست وهما فالأفكار تغير عقول البشر، فلنأمل بأن أفكاراً أفضل قد تأتي بمستقبل أفضل.