يهود النيل .. من فرعون الى عبدالناصر
المصدر
في العصور السالفة، استقرّ الحُكماء اليهود في الإسكندرية ونشروا حكمتهم للعالم. حتّى القرن العشرين لم تكُن الصهيونية والوطنيّة المصرية متناقضتَين. لكن اليوم، تكاد جالية يهود مصر تكون غير موجودة .
لم تكن الجالية اليهودية في مصر يومًا أكبر جالية يهودية في الشرق الأوسط، ولا أبرز جالية. فالجاليات العراقية، الشاميّة، اليمنيّة، والإفريقية الشمالية كانت أبرز بشكلٍ عامّ. لكن منذ فجر التاريخ، نسج اليهود علاقات خاصّة مع مصر، لم تتوقّف يومًا. فمنذ ذهاب إبراهيم الخليل ويعقوب إلى مصر في أزمنة الكتاب المقدّس، وجد الكثير من اليهود ملجأً في بلاد النيل.
شعب مُقاتِلين وحُكماء
في الحقبة الهلينستية، التي ازدهرت فيها مدينة الإسكندرية وأضحت مركزًا عالميًّا للحكمة، الفلسفة، الهندسة، والعمران، لم تتضرّر مكانة اليهود. ففي القرن الثالث قبل الميلاد، وضع حُكماء يهود من الإسكندرية الترجمة الأولى للأسفار المقدّسة العبرانيّة إلى لغة أجنبية، التي دُعيت “الترجمة السبعينية”، لأنّ 72 من الحكماء اليهود عملوا على الترجمة إلى اليونانيّة وفق التقليد. بعد ذلك بسنوات، ظهر في الإسكندرية فيلَسوف يهودي شهير آخَر، هو فيلون السكندري، الذي كان يطمح إلى أن يُظهر أنّ اليهودية دين يمكنه أن يندمج مع مبادئ الفلسفة اليونانيّة، ولا يناقضها.
في الحقبة الرومانية أيضًا، واصل اليهود الازدهار، لكنّ تمرّدهم على الحُكم الروماني عام 115 للميلاد كان ذا عواقب وخيمة عليهم. فقد كان يهود الإسكندرية عاملًا رئيسيًّا في الصراع ضدّ الرومان، الذي بدا في البداية انتصارًا كبيرًا على الإمبراطورية. لكن الإمبراطور تراجان أرسل قوّات عسكريّة كبيرة أدّت إلى انتهاء ثورة اليهود بإبادة 90% من يهود مصر، وتدمير المجمع اليهودي الفاخر في الإسكندرية. ولم تبدأ مكانة اليهود بالتعافي إلّا مع صعود الإسلام، إذ حظوا، كباقي يهود العالم الإسلاميّ بمكانة “أهل الذمّة”.
رغم أنّ تعامُل السلطات الإسلاميّة كان يتغيّر مع السنين، ورغم العبء الماديّ المتمثل في الضرائب والجزية، تمتّع يهود مصر باستقلال شبه تامّ. في القرن السابع للميلاد، ازدهر في مصر اليهود القرّاؤون، وهم فرع خاصّ من اليهودي لا يعترفون بأيّ من “الكتابات الدينيّة” عدا التوراة نفسها. ولا تزال هذه الجماعة، الموجودة في صراع طويل الأمد مع باقي الطوائف اليهودية، قائمةً في إسرائيل إلى اليوم.
حين بلَغ عظيمُ اليهود القاهرة
في أواخر القرن الثاني عشر للميلاد، وصلَ مصرَ رجلٌ يُعتبَر أحد أحكم اليهود وأفضلهم في التاريخ، وهو موسى بن ميمون. كان ابنُ ميمون، الذي وُلد في الأندلس، وانتقل جرّاء ضائقة اقتصاديّة إلى المغرب، في طريقه إلى الشرق الأوسط، رجل دين، فيلَسوفًا، عالمًا، وطبيبًا. وبالتوازي مع كونه رئيس الجالية اليهودية في مصر، كان ابن ميمون أيضًا طبيب الملك الأفضل بن صلاح الدين. قضى موسى بن ميمون وقتًا طويلًا في البلاط الملكيّ في القاهرة، لكنه استمرّ في تكريس قسمٍ كبير من عمله للفتاوى الدينية لليهود.
جعلت الخبرة المنوّعة، التي شملت كتب الفلسفة والعلوم اليونانيّة، إلى جانب الاطّلاع الكامل على الأدب الدينيّ السابق له، ابن ميمون اسمًا يبعث على الفخر لدى كلّ يهودي إلى يومنا هذا. في القاهرة، خَطَّ كتابه الشهير دلالة الحائرين، الذي يُرشِد اليهودي الحائر الذي لا ينجح في التوفيق بين مبادئ دينه وبين العلم والفلسفة، واستخدم فيه ابن ميمون مبادئ مدرسة “الكلام” الإسلاميّة. ويُعتبَر الكتاب مُؤَلَّفًا نموذجيًّا.
أيّام الازدهار
في عصر المماليك، كان وضع اليهود حرِجًا جدًّا. فقد جعل التعصُّب الديني ضدّ جميع الطوائف غير المسلمة، الذي كان موجَّهًا بشكل خاصّ ضدّ الطوائف المسيحية، اليهود يدفعون ثمنًا باهظًا. أمّا مع صعود الإمبراطورية العثمانية، فقد تحسَّن وضع اليهود نوعًا ما، لكنّه ظلّ متقلّبًا. وأدّت المجازِر المُرتكَبة ضدّ الجالية اليهودية إلى تقلُّص عدد اليهود بشكل ملحوظ في القاهرة والإسكندرية في القرون التي تلَت. ولكن مع تولّي محمد علي باشا السلطة، عاد وضع اليهود إلى التحسُّن.
حين بدأت تُثار مسألة شقّ قناة السويس في القرن التاسع عشر، تحسّن وضع اليهود أكثر أيضًا. فقد امتلأت القاهرة بمندوبين وذوي مصالح بريطانيين، فرنسيين، وألمان، وساعدت المبادرةُ الاقتصاديةُ اليهودَ على انتهاز تلك العلاقات لإقامة علاقات تجاريّة جيّدة.
في مطلع القرن العشرين، بلغت جالية يهود مصر الذروة، وتكوّنت ليس من يهودٍ عاشوا في مصر طوال قرون فحسب، بل أيضًا من مُهاجِرين يهود أتَوا من جميع أنحاء أوروبا وشمال إفريقيا. وأتى إلى مصر أيضًا يهودٌ من أصول بولندية وروسيّة بسبب التعامُل السيء مع اليهود في أوروبا الشرقية. أدّى هذا إلى جعل يهود مصر ينطقون بلُغاتٍ مختلفة. فالمخضرَمون تحدّثوا باللهجة العربية المصرية، فيما المُهاجرون المتحدّرون من المطرودين من إسبانيا تحدّثوا الإسبانية – اليهودية، التركية، اليونانيّة، والإيطاليّة، أمّا الأوروبيون الشرقيون فكانوا ناطقين بالروسية، البولندية، ولهجات من الألمانية – اليهوديّة. في الواقع، كانت الجالية المصرية في ذلك الحين أشبه بقوس قزح.
في القاهرة والإسكندرية، كانت ثمة مدارِس يهودية درّست مختلف اللغات والحضارات الأوروبية، التي اختارها والِدو التلاميذ. كما أنشأت الجالية اليهودية مستشفَيات في القاهرة والإسكندريّة، مؤسسات للمُسنّين، ومؤسسات صَدَقة وثقافة مختلفة، بما فيها مسرح جماهيريّ.
الدمج بين الصهيونيّة والوطنيّة المصريّة
بلغت الصحافة اليهودية في مصر ذروتَها في القرن العِشرين. فقد عمل نحو 90 صحيفة يهودية في مصر بدءًا من نهاية القرن التاسع عشر، حتّى مغادرة معظَم اليهود إلى إسرائيل. إحدى أشهر الصحف، التي كانت تصدُر في العشرينات، كانت صحيفة “إسرائيل”، التي نُشرت بالعربية، الفرنسيّة، والعبرانيّة. أنشأ الصحيفةَ د. ألبرت موصيري، أحد أعيان الجالية اليهودية. كان موصيري وطنيًّا مصريًّا، ولكنه دعم الصهيونيّة أيضًا. وهو لم يجِد أيّ تناقض بين الصهيونية وبين القوميّة العربية، بل ظنّ أنّ الدولة اليهودية يمكن أن تُقام في قلب الشرق الأوسط.
في تلك السنوات، بدأت الفكرة الصهيونية تنمو لدى يهود مصر. بدأ عدد أكبر فأكبر من شبّان مصر ينتمون إلى حرَكات شبابيّة صهيونية، فيما تبرّع أثرياء الجالية اليهودية بالمال لشراء أراضٍ للمستوطَنات اليهودية في فلسطين. ولدى صدور وعد بلفور عام 1917، عبّر يهود القاهرة والإسكندريّة عن فرحهم علنًا.
لكن في الثلاثينات، تزايدت الدعاية النازية والفاشيّة بين المصريّين، ما أدى إلى تدهوُر أوضاع اليهود. أدّى العداء لليهود في نهاية المطاف إلى إغلاق صحيفة “إسرائيل”. ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية وازدياد الحديث عن الحاجة إلى دولة يهودية، تزايد السخط العربيّ والمصريّ على اليهود.
أيّام العِداء
في جلسةٍ للأمم المتحدة سبقت الإعلان عن إقامة دولة يهودية، في تشرين الثاني 1947، حذّر سفير مصر، يوسف هيكل باشا: “يعيش مليون يهودي بسلام في مصر وباقي الدول الإسلامية، ويتمتّعون بجميع حقوق المواطِنين. وهم بالتأكيد لا يرغبون في الهجرة إلى فلسطين. لكن إذا أُقيمت دولة يهودية، فليس في وسع أحدٍ أن يمنع الكوارث. ستندلع اضطرابات في فلسطين، تمتدّ إلى جميع الدول العربية، وتؤدي ربما إلى حرب عرقيّة … إذا قرّرت الأمم المتحدة تقسيم فلسطين، فإنها ستتحمّل مسؤولية الكوارث الخطيرة جدًّا وقتل عددٍ كبير من اليهود”.
لكنّ قرار إنشاء دولة يهودية اتُّخذ في الأمم المتحدة، وقرّرت مصر إرسال جيشها لنصرة فلسطين وتدمير الكيان الصهيوني. ولم يُؤدِّ الإخفاق المصري والانتصار الإسرائيلي عام 1948 سوى إلى تحوُّل التعامُل مع اليهود إلى أكثر سوءًا. فاعتُقل عددٌ كبير منهم، وصودرت ممتلكاتُهم.
بين حزيران وتشرين الثاني عام 1948، شرعَت الحكومة المصرية والجماهير في مصر في ممارسة العنف والاضطهاد ضدّ اليهود. في الحيّ اليهودي، أُلقيت قنابل، تسبّبت بوفاة 70 يهوديًّا وإصابة نحو 200 آخَرين، فيما أدّت اضطرابات أخرى في أرجاء مصر إلى مقتل وإصابة مئات آخَرين من اليهود. كما اعتُقل ألفا يهودي، وصودرت ممتلكات آخَرين.
في 30 أيار 1948، أعلنت الحكومة المصرية عن نيّتها مصادرة ممتلكات أيّ مواطن، في حال ثبت أنّ نشاطه يشكّل خطرًا على أمن الدولة. فانتقلت ملكيّة نحو 70 شركة ومصلحة يهودية إلى الحكومة المصرية. دفع ذلك يهودًا كثيرين إلى اجتياز الحدود، ليقيموا في إسرائيل. فغادر نحو 30 ألف يهودي القاهرة، ووصل نصفهم إلى إسرائيل.
تزايدت النزعة مع ارتقاء جمال عبد الناصر السُّلطة. فهزيمتا مصر أمام إسرائيل عامَي 1956 و1967 جعلتا مصريين عديدين يصبّون جام غضبهم على اليهود القليلين الباقين. أدرك معظم اليهود عام 1956 أنّ مصر لم تعُد ملجأً آمنًا بالنسبة لهم، فهاجروا إلى إسرائيل أو إلى دُول أخرى. صادرت الحكومة جميع ممتلكات اليهود الذين غادروا مصر، واضطُرّوا إلى التوقيع على تعهُّد بأنه لا يمكنهم مطالبة مصر بأيّ شيء أو العودة إليها مطلقًا. حتّى عام 1957، هبط عدد يهود مصر، الذي بلغ نحو 80 ألفًا في مطلع القرن، إلى مُجرَّد 15 ألفًا.
أمّا اليوم فلم يبقَ في مصر سوى بضع عشراتٍ من اليهود، يعيش معظمُهم في الإسكندرية. أدرك يهود مصر أنّ الأيّام التي كان يمكن فيها لليهود في مصر أن يرَوا أنفسهم وطنيّين مصريّين وصهيونيّين على حدٍّ سواء ولَّت، وأنه أصبح عليهم أن يختاروا بين الكون مصريين والكون صهيونيين. كانت تلك النهايةَ الحزينة لقصّة جالية عظيمة، كان يمكنها لولا الظروف السياسية أن تواصل النمو والازدهار داخل مصر، إلى جانب دولة إسرائيل، حتّى يومِنا هذا.