مارك خضر

Marc Khedr

على الرغم من أن الشاحنة التي حُشروا فيها كانت مغطاة بنسيج قاتم اللون، كانت الرياح في بعض الأحيان تُسقط اللوحات على النافذة، وتكشف الطريق المغبرة. إنه حزيران/يونيو والجو حار، وكان مارك خضر قد أمضى بالفعل ليلته الأولى في أحد السجون المصرية. فقد تم أخذه مع والده من منزلهم في القاهرة في الليلة السابقة. واعتقد والد مارك أنهم كانوا في طريقهم إلى معسكر اعتقال حيث هزت الشاحنات الكبيرة الشوارع في رحلات استغرقت ساعات طويلة بعيداً عن العاصمة.

كان يعيش ذات مرة 80000 يهودي في مصر. وتشير بعض التقديرات إلى أن عدد السكان اليهود في البلاد وصل إلى 200 شخص في نهاية القرن العشرين. ومنذ عام 1948 تم انتهاك ومضايقة واختطاف وضرب ذلك المجتمع المزدهر. وبلغ العنف أسوأ لحظاته خلال حربي عام 1956 و 1967.

ويقول خضر، “عشت كملك”. هو مصري، ويتحدث بلكنة مصرية. لقد كان الطريق ممهداً للشاب خضر البالغ من العمر 18 عاماً. فقد بدأ الصيف للتو وكان ذلك يعني بدء عطلة تستغرق ثلاثة أشهر. وعندما كان شاباً في سن الدراسة الجامعية، لم يستطع خضر الالتحاق بأي كلية. وبدلاً من ذلك قام بتدريس الرسم التقني في “معهد أمبوسكو” في القاهرة حيث ربح راتب قدره 18£ في الشهر.

ولكن في الساعات الأولى من صباح 6 حزيران/يونيو 1967، عندما اندلعت الحرب مرة أخرى بين إسرائيل ومصر، اكتُسحت معيشته كالملك أثناء الصيف بعيداً إلى غير رجعة.

ويقول، “توقفت الشاحنة وكانت الرياح تحب. بامكانك مشاهدة بوابات كبيرة. كان علينا أن نقفز، وتم دفع أولئك المسنين الذين كانوا معنا بقوة.” وهكذا وصل خضر ووالده إلى سجن أبو زعبل الذي يبعد مدة ساعتين عن القاهرة.

وهناك تم جمعهم في غرفة كبيرة. ويقول، “كانت أبعادها 25 × 30 ولها بلاطات كبيرة وكان هناك 60 شخصاً.”

وفي صباح اليوم التالي أُجبر السجناء — 400 منهم من اليهود — على الركض في الفناء، في الوقت الذي كان أحد الجنود المصريين يقوم بضربهم بالحزام.

“ودعا اسمي فذهبت. وسألني إذا كانت لدي مشكلة في قلبي حيث كانت دقاته سريعة جداً. كنت خائفاً فقلت نعم. فوضعني في غرفة أخرى للمسنين والمرضى. وقال لهم والدي إنني مريض لكي لا يضربوني بالحزام. ”

وكانت غرفة رقم 24 بنفس حجم غرفة رقم 21. ومرة أخرى حُشر في داخلها ستون شخصاً، وأثناء الليل شكلوا ثلاثة صفوف في كل منها عشرين شخصا. وأضاف، “إذا كان عليك النهوض من أجل الذهاب إلى الحمام أثناء الليل، كنت تسقط على الناس الآخرين. وعند عودتك لم تجد مكانك لأن شخصاً آخر انتقل إليه”.

وعمل خضر كل ما استطاع للنوم على البلاط الذي غطى تلك الأرض عديمة الرحمة. وفي البداية استخدم لوحة الألومنيوم التي أعطاه إياها الجنود عند وصوله. ولكن في وقت لاحق وجد وسادة أكثر ملاءمة. فقد كان رغيف الخبز الذي يعطى للسجناء قذراً، ويتحدث خضر عن إيجاد الرمل وأعقاب السجائر والمسامير في داخله. فتخلى عن لوحة الألمنيوم وبدأ يستخدم الخبز كوسادة.

بعد أيام قليلة من وصوله جاء قطار من الإسكندرية محملاً بـ 200 يهودي. وكانوا متعبين ومصابين بجروح بعد قضائهم مدة طويلة في القطار. وكتب المصريون بأنهم أُسر حرب تم القبض عليهم بعد قيام المصريين بإسقاط طائرات إسرائيلية، وأثناء سفرهم ضُربوا بالحجارة.

وبقي خضر ووالده في أبو زعبل لمدة ثمانية أشهر قبل نقلهم إلى “طره” وهو سجن آخر في مصر. ويتذكر خضر الأوقات العصيبة في “طره” وأيضاً الرجل الذي أسموه بالـ “قطار”.

“كان نحيفاً جداً ولكن امتلك عضلات كبيرة. مسلماً في ديانته، يركض والناس يتبعوه. كانت المسافة حول ساحة السجن بأكملها هي ثلاثة أرباع الميل، وكان يركض إلى عدم تمكن أحد من متابعته. وفي البداية كنت أشعر بالتعب بعد دورتين أو ثلاث دورات. ولكن بعد أن أصبح قلبي ورئتاي أقوى كنت أتمكن من الركض لمسافة أطول. وتنافسنا في الوقت الذي كان جميع السجناء يشاهدوننا. وركض هذا الرجل 25 دورة وكنت أعلم بأن كان علي أن أعمل جولة إضافية. فركضت 26 دورة”.

وُضع سجن “طره” مباشرة في مسار الطائرات الحربية الإسرائيلية. ويعتقد خضر بأن المصريين أرادوا أن يقوم الاسرائيليون بتفجيره وقتل السجناء.

“وفي إحدى المرات رأيت طائرة إسرائيلية تحلق فوقنا على ارتفاع يقل عن ارتفاع مبنى. رأيت “نجمة داود” وكان الطيار يعرف بأننا كنا هناك لأنه أسقط قنابل في كل مكان باستثناء السجن الذي كنا فيه. رأيت بعض الدخان الأسود واعتقد المسلمون أنه تم إسقاط الطائرة ولكنها حلقت عالية جداً في الهواء وبسرعة كبيرة”.

بعد مرور 3 سنوات وشهر واحد، أُفرج عن خضر وطُرد من مصر. وانضموا إليه والدته وأخته وأخيه ووالده وجاؤوا معه إلى باريس. وعاش هناك لمدة ثمانية أشهر عمل فيها في متجر لبيع الملابس النسائية.

ويتحدث عن معنى الحرية التي تمتع بها في باريس. فبعد الفترة التي قضاها في العاصمة الفرنسية، انتقلت عائلته إلى سان فرانسيسكو، حيث كان شقيقه الأكبر قد وصل إليها قبل حرب عام 1967 وعمليات الاعتقال التي أعقبتها.

وفي سان فرانسيسكو عمل في متجر آخر لبيع الملابس لمدة عشر سنوات. وفي وقت لاحق قام بشراء متجر “تيون – آپ شوپ” الخاص به، وهو فرع من امتياز منتشر في جميع أنحاء الولايات المتحدة. وخلال تلك الفترة التقى بزميلة يهودية مصرية وتزوج منها ورزقوا بثلاثة أطفال.

وبينما قضى أكثر من ثلاثين عاماً في الولايات المتحدة، فما يزال مصرياً في طبائعه إلى حد كبير.
ويقول، “لو لم تنشب الحرب لربما كنا قد بقينا في مصر”.